دون أن تدرك.. كيف يغير الإعلام أسلوب حياتك وتفكيرك؟

في منتصف الحرب العالمية الأولى، وتحديداً عام 1916م، واجهت الحكومة الأمريكية، برئاسة الرئيس وودرو ويلسون، أصعب مشكلة في الحرب: كيفية إقناع الشعب بضرورة المشاركة ضمن صفوف دول الحلفاء. كيف ستجيب الحكومة على هذا السؤال؟ ماذا قد يحدث لمزاج الأميركيين الذين لا يريدون شيئاً أكثر من المجازفة بالحرب ما داموا بعيدين؟ ها هو السيد كريل يحمل خطط الإغاثة الطارئة والدعاية، تاركاً له ولويلسون مهمة البحث عن الإجابات.


ستكون ستة أشهر فقط كافية لتعزيز الدعم الشعبي بشكل حاسم من جانب الحكومة الأمريكية قبل أن يتم رفع الأسلحة ضد الألمان. كل الشكر لـ "مجلس كرييل" الذي استطاع أن يفعل ذلك نفسياً. والأدوات المعرفية لتغيير موقف الجمهور من الأحداث بشكل كبير. وفي غضون ستة أشهر، كشفت اللجنة - وهي مزيج مثالي من الحقيقة والأسطورة - عن صورة الألمان كمجرمي حرب خاصين، وقطعت أذرع أطفال بلجيكيين، ودمرت مدنًا واتجهت نحو إبادة الإنسانية، من بين أمور أخرى غيرت وجه التاريخ. وبعيداً عن الدعاية السلبية، كانت لدى الأمريكيين رغبة هستيرية في تدمير كل شيء في ألمانيا وإنقاذ العالم من نيران مدفعيتهم.

هكذا يروي المفكر الأميركي نعوم تشومسكي القصة، قبل أن يذهب إلى القول إن أدوات الدعاية لم تتوقف عند هذا الحد، بل تجاوزت هذا بعد عقود، لتأجيج العدوان الأميركي في الشرق خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي والخوف من الشيوعية. القوات. وأدى ذلك إلى تدمير النقابات الأمريكية في نهاية القرن الماضي دون أي جدال أو معارضة.

يشير تشومسكي -في سياق فضح الدعاية- إلى نظرية "والتر ليبيمان"، التي تبحث في كيفية صناعة الإجماع الشعبي تجاه شيء كان مرفوضا من الأساس، يقسم "ليبيمان" المجتمع إلى طبقتين: الأولى هي عامة الشعب المتلقي والمُوجَّه، والثانية هي النخبة الصغيرة (المتخصصة)، والتي تتحكم في الاقتصاد والسياسة -والأيديولوجيا بطبيعة الحال- وهي التي تصنع الإجماع عبر أداة الإعلام.

هكذا يروي المفكر الأميركي "ناعوم تشومسكي" القصة، ليكمل بعدها أن أداة البروباغندا لم تقف عند هذا الحد، بل تجاوزته بعد عقود لإثارة الرعب الأميركي تجاه الجناح الشيوعي في الشرق خلال حربها الباردة مع السوفييت في نهايات القرن الماضي، مما ساهم في تدمير الاتحادات العمالية في الولايات المتحدة دون أي إشكال، أو اعتراض يُذكر.

إذا تم إسقاط نظرية "ليبمان" على نطاق أوسع، ليكون الجمهور هو الشرق المتلقي، وتكون النخبة هي القوى المتحكمة في أداة الإعلام والسينما والتكنولوجيا في الغرب، فإن التوجيه السياسي والقيمي تجاه الأحداث والأفكار سيكون غرضا واضحا لدى هذه القوى، وهو الأمر الذي سيواجه صعوبة تتمثل في الحواجز المعنوية والقيمية بين الشرق والغرب، لذا، فإن إزالة هذه الحواجز ستمثل الغرض الأول لصناع الإعلام. ولإزالة الحاجز؛ فإن ثقافة واحدة ينبغي أن تهيمن على الثقافات الأخرى، ليكون العالم قرية صغيرة لا فرق فيها بين مجتمع وآخر، فتُزال الخصوصية القيمية والأخلاقية للأمم، كما أنها تشكل رافدا اقتصاديا تروج من خلالها الثقافات المهيمنة لمنتوجاتها، وبذلك تكون العولمة هي المنظومة الحاكمة التي تسهل هذا الاتصال بين المجتمعات.. فما هي العولمة؟ وكيف تساهم في صنع ذاك؟

كثير من الهيمنة قليل من الخصوصية

أن يتميز المجتمع بأفكاره فتلك هي الثقافة، وأن تجعل هذه الأفكار عالمية بين المجتمعات، فتلك هي العولمة في أبسط تعريفاتها، والتي عبّر عنها قاموس "أكسفورد" بوصفها "عملية يتم من خلالها تطوير نفوذ الشركات والمؤسسات على نطاق عالمي"، فهي تعبير عن إزالة الحدود والفوارق بين الدول، وفتح الأسواق أمام رأس المال والاستثمار الحر، أو ما يُسمى بسياسات النيوليبرالية، أو الليبرالية الجديدة.

فالعولمة -بهذه الصورة- هي "توفيق أوضاع البلد مع ما في العالم من أساليب تقنية حديثة في الإنتاج والنقل والاتصالات وما إلى ذلك، والهدف المعلن عنه في هذا الخصوص هو تحويل العالم إلى شكل جديد موحد يلغي الحدود والفواصل بين الدول"، وهو ما ذهب البعض إلى اعتباره شكلا من الهيمنة البديلة والإمبريالية الجديدة عوضا عن الاستعمار العسكري المباشر؛ بهدف فرض النفوذ الغربي على دول العالم الثالث، عبر خلق الاحتياج الاقتصادي والتقني لديها، وتعزيز قيمة الاستهلاك التي تضع تلك الدول دائما في موقف المحتاج؛ ليمارس المُنتِج نوعا جديدا من الاستعمار سمّاه "المسيري" بـ"الاستعمارية/الإمبريالية النفسية" التي تذهب مباشرة إلى الأفكار والقيم الأخلاقية لدى المجتمعات، وهو ما أورده "ابن خلدون" سابقا في مقدمته بأن "المغلوب دائما مولع بالاقتداء بالغالب".

وفي السياق نفسه، يرى عالم الاجتماع الفرنسي "سيرجي لاتوش" أن "العولمة تؤدي بصورة آلية إلى أزمة أخلاقية، فتظهر الشركات متعددة الجنسيات بوصفها سادة العالم الجدد" الذين "تمنحهم قدراتهم المالية الوسائل من أجل شراء ووضع الدول والأحزاب والكنائس والنقابات والمنظمات الأهلية والجيوش والمافيات في خدمتهم". وهو ما يلتقي معه الباحث "الحسان شهيد"، قائلا إن مشروع العولمة، باعتباره أحد أشكال التعارف الثقافي والتدافع الحضاري، يبدو وكأنه "تهديد للأسس القيمية لدى الثقافات المتعددة، سواء كان ذلك على المستوى الفردي أو الأسري أو المجتمع أو العالم ككل".

ومن خلال أربعة مداخل، تقوم من خلالها العولمة بالسيطرة على الشعوب، يرى "الحسان" المدخل الإعلامي من "المداخل الأكثر خطورة على القيم الإنسانية، لما يحمله من رموز فكرية عابرة للثقافات وخارقة للحضارات"[9]. فالإعلام الجديد قد لعب "دورا في تفكيك البنى الثقافية في المجتمعات العربية"، منفصلا -في كثير من الحالات- عن منظومة القيم الهادية، ومتمركزا حول رؤية العالم بوصفه نمطا استهلاكيا تُعبد فيه الدنيا"، فلا مقدسات ثابتة تحكم، ولا حدود أخلاقية تقف عندها ممارسات الشاشة والتقنية.

الإعلام و"تعليب الإنسان"

في تحليله للظاهرة الإعلامية الحديثة، يرى الباحث "عبد الرزاق بلعقروز" أن الرؤية الإعلامية للعالم أكبر من تحليلها الظاهري بالأرقام والإحصاءات فقط، وإنما -قبل ذاك- فهي تحتم علينا السؤال عن فلسفتها ومقاصدها الأخلاقية؛ حتى يتسنّى للمرء معرفة الأفكار الكامنة وراء الآلة الإعلامية والقيم التي يُراد لها أن تسود.

وهو هنا يتقاطع كثيرا، مع تحليلات "المسيري" التي ترى أن هذا العصر الإعلامي، "هو عصر الانفصال عن القيمة، وأن الهدف من الهجوم الإعلامي هو إشاعة النموذج الاستهلاكي، بما يتضح في الإعلانات التليفزيونية التي توظف الجنس من أجل تحقيق فائدة اقتصادية،  فاحتساء الشاي لا تكتمل متعته إلا من أيد رقيقة! والإعلانات عن قشرة الشعر أو البشرة تجعلنا نحس أن الجنس البشري كله قد أصيب فجأة بالأمراض الجلدية! ولكن لو شفي المرء منها فإن جاذبيته الجنسية لا يمكن أن تقاوم! ويرتبط بذلك كله انتشار القيم الاستهلاكية".

تلك الإعلانات تهدف إلى "دفع الإنسان لمزيد من الاستهلاك، وكأن الاستهلاك هو الهدف الأساسي وربما الوحيد من وجود الإنسان في هذا الكون"[6]. فجوهر الإعلام في عصر العولمة هو "تنميط العالم بحيث يصبح العالم بأسره وحدات متشابهة"، تجعل من الإنسان شيئا جسمانيا اقتصاديا لا انتماء واضح له ولا خصوصية ثقافية؛ لأن الخصوصيات الثقافية تعوق هذا الإنتاج العالمي، لذا، "وفي ظل غياب الانتماء والهوية والمنظومات القيمية والمرجعيات الأخلاقية والدينية تتساوى الأمور، ويصبح من الصعب التمييز بين الجميل والقبيح، وبين الخير والشر، وبين العدل والظلم، وتسود النسبية المطلقة".

ويضرب الباحث "محمد مصباح" مثالا على هذا الاختلاط بين الصحيح والخاطئ بما سمّاه "أسلمة الحداثة"؛ حيث أدى الإعلام إلى تضارب القيم عند البعض في مجتمعاتنا، فصاروا يمارسون الثقافة الغربية بتوفيق مع ثقافتهم الإسلامية والعربية؛ لينتجوا شيئا مختلطا لا هوية له، "مثل حجاب الموضة، والفن الديني العصري"، فالإعلام لا يهدف إلى صياغة العواطف والتأثير على المعارف فحسب، بل لديه رغبة في التأثير على السلوك عن طريق تصدير أنماط معينة من الزي والمظاهر تدفع المُقلِّد لها نحو تقليد نمط الحياة الغربي بما يحتويه من أفكار، وهو ما يعتبره "الحسان شهيد"؛ اختراقا ناعما للقيم الإنسانية.

الشاشة والتحكم بوعي الجماهير

بدءا بالكلمة ومرورا بالصوت، ننتهي إلى عصر الصورة التي سادت على الإعلام، والتي تتعامل مع الحواس البسيطة لدى الإنسان، فلا تحتاج كفاءة ذهنية ولا مخزونا ثقافيا، صانعة -في الوقت نفسه- مشاهدا ذا عقل سلبي، يستقبل الصورة ويقلدها بلا تفكير[10]. ففي مرحلة الإعلام المطبوع كانت استجابة الجمهور لا تتسم بالتزامن؛ لأنه يستقبل الرسالة الإعلامية في أوقات مختلفة، لكن مع الإذاعة والبث المباشر اكتشف الساسة وذوو النفوذ أن التزامن في الاستقبال الذي تُحدثه الشاشة، ومن ثم في ردود الأفعال، له أثر فعال في انتشار وتثبيت القيمة أو الفكرة المطلوبة.

وكنتيجة لثورة الاتصالات والمعرفة، باتت الصورة هي المهيمنة، فأضحى الإعلام المرئي" قائما في أساسه على عولمة النموذج الاقتصادي القائم على أساسين: سلعة ومشتر، ومن هنا كان التزايد الواضح في استثمارات رأس المال في الإنتاج السمعي والبصري في المنطقة العربية -باعتبارها جزءا من العالم وجزءا يساهم في الاستهلاك بامتياز".

وفي هذا الصدد، يذهب الباحث "أحمد فهمي"، في كتابه "هندسة الجمهور"، إلى إستراتيجيات ثلاث يتم التعامل من خلالها للتحكم في "الخريطة الإدراكية" لدى الجماهير، تبدأ من توظيف هذه الخريطة  حسب رغبة القوى المتحكمة في الصناعة الإعلامية، فتقوم الحملة الإعلامية بقياس رغبات الجمهور ثم توظيف هذه الرغبات في خدمة أهدافها، فعندما يفضل البريطانيون -مثلا- الرجل القوي، فإن حملة "توني بلير" الدعائية ستصوره على هذه الصورة لتستميل الناخبين، وحينما يميل الأميركيون إلى الحاكم الخبير؛ فإن الدعايا ستصور "بيل كلينتون" كذلك، وسيقوم المكياج بإظهاره أكبر من سنه الحقيقي ليفوز بتأييد الجماهير.